المأزق الأخلاقي.. عندما لا يكون الصواب صوابا ! نسخة من المقال الأخير للدكتور حسام الشاذلي علي مدونة الجزيرة





المأزق الأخلاقي .. عندما لا يكون الصواب 

صوابا!


نسخة من المقال الأخير للدكتور حسام الشاذلي المستشار السياسي والإقتصادي الدولي، وأستاذ إدارة التغيير والتخطيط الاستراتيجي بجامعات سويسرا السكرتير العام للمجلس المصري للتغيير، والمنشور اليوم ٦ نوفمبر ٢٠١٨ علي مدونة الجزيرة




الالتزام بالمعايير الأخلاقية، تحمل المسؤولية، الدفاع عن الحق والوطن والوقوف ضد الظلم والفساد مهما طال الزمن، الدفاع عن الحريات، المسئولية الاجتماعية للشركات والمؤسسات، مناصرة المظلوم والتفريج عن المهموم، كلها معايير هامة ورئيسية في حياة أي فرد وأمة وفي صناعة الحضارات وبناء المستقبل، قواعد قد وضعت منذ بدأ الخليقة وارتضاها البشر كمسار ومضمار.


ولكن في عالم بلا جدران ينتشر فيه الفقر والظلم والفساد، ولا تنفك ديكتاتوريات تولد أو تبعث من ممات، حروب بلا سبب ومدن تباد بلا عدد، في ذلك العالم، قد تتبدل المعايير وتتغير الموازين لتصنع أزمة أخلاقية قد لا تنتهي، وتخرج فتنة لا تنقضي، ويبقي السؤال هل يظل الصواب صوابا، أم تتبدل المعايير والموازين فتنتج دمارا وخرابا. لمحاولة الإجابة على هذا السؤال وأسئلته وتفهم معضلة الأخلاق في عالمنا المعاصر، أشاركم ملخصا لأحد كتاباتي الدراسية كجزء من أعمالي البحثية في جامعة ليفربول الإنجليزية، علنا نستشعر الخطر سويا ونحاول أن نتفهم أبعاد تلك الأزمة الأخلاقية وتأثيراتها على عالمنا المعاصر وعلى التجربة المصرية.


أزعم أنني قد حصلت بعض الخبرات والمعلومات بسبب عملي لسنين طويلة داخل مؤسسات دولية في مجالات تهتم بالصحة والدواء والغذاء والطاقة والتعليم والتكنولوجيا، إضافة إلى كوني من المعنيين بالقضية المصرية وبقضايا الحريات وحقوق الإنسان بصورة عامة، ولا شك أن حياتي قد تأثرت كثيرا بذلك الاهتمام وتلك النشاطات، فبت أشارك الآلاف من بني وطني حياة بعيدة عن الأهل والوطن يملأها الحنين وتخضبها الأحزان ويعتصرها الألم، أما علي الصعيد البحثي فقد أوليت اهتماما كبيرا لمحاولة فهم العلاقة بين صناعة التغيير والبيئة الاجتماعية والسياسية للبلدان والمجتمعات، فتحولت تلك الخبرات والدراسات إلى محاولات ومبادرات، وأوراق عمل ومقالات، حتي صرت أري الأمور بعين جديدة وأحيانا غريبه، ولكنني ما زلت أحلم ببلادي البعيدة وأهلها الطيبين، وأموت شوقا لنظرة من بحر الإسكندرية ولفحة من شتائه علي الجبين

ومن هنا نبدأ ثم نعود لنحاول أن نتفهم أبعاد تلك المعضلة والأزمة الأخلاقية المتطورة في هذا القرن من الزمان، في العالم وفي بلاد مصر والخليج والشام، فعلي صعيد الأعمال الدولية والعمل كان من الواضح لدي أن هناك أزمة أخلاقية كبيرة في تلك المعايير التي تلتزم بها المؤسسات الدولية في وطنها الأم وتضحي بها في بلاد بعيدة وقريبة، حيث تنتهج مناهج الرشوة والفساد والمحسوبية والانتهازية لكي تضمن رواج منتجات مؤسساتها الدوائية أو ترسية عطاء علي فروعها المحلية، وكأن حال أمرها يقول بأن أخلاق الوطن لا تسافر مع العمل وبأن قواعد العمل الملزمة لا تتعدي حدود المطارات ولا بوابة الجوازات.


وقد أكون متأثرا في تفاعلي مع هذه المتغيرات بكتابات باداركو والذي حدد أهمية اللحظات الفاصلة في حياة الإنسان "Defining Moments" عندما يتحتم عليه أن يختار بين الخطأ والصواب أو بين الصواب والصواب، وذلك عندما قررت ترك عملي مع أحدي المؤسسات الدولية الدوائية مقتنعا بكونها تنتهج نهجا غير أخلاقي في ترويج منتجاتها حيث كنت أحسبني أتخير بين الخطأ والصواب، وحديثا كان قراري بالاستقالة من مركز الرئيس التنفيذي لإحدى المؤسسات الدولية لكي أتمكن من قضاء وقت أكبر مع أبحاثي وقضيتي، حيث كان ظني أنني أختار بين الصواب والصواب.


ولكنني أري قمة الأزمة الأخلاقية وخلاصة تصويرها في تلك الحالة المأساوية للثورة المصرية في ٢٥ يناير ٢٠١١ وأبعاد تطوراتها، هذا الانقلاب العسكري الدموي الذي أتي بديكتاتور في ثوب جنرال إلى قصر الرئاسة، هذه المأساة التي تضمنت قتل الآلاف من المصريين الأبرياء في مذابح متعددة كرابعة والنهضة والحرس الجمهوري وغيرها وفي تصفيات خارج نطاق القانون وبلا قانون، تحكي المأساة عن أحوال أكثر من خمسين ألف معتقل سياسي بلا ذنب ولا جريرة إلا حب ذلك الوطن وعشق أراضيه، أطفال ونساء وشيوخ، أطباء ومهندسين، طلبة وأساتذة جامعات، علماء ومفكرين وسياسيين، مأساة لم تنتهي تضم كل صاحب عقل أو قلم أو دين، شوارع مخضبة بالدماء وسجون ومعتقلات تئن بالجراح.


يفسر الكاتب جيك في دراساته النفسية والاجتماعية الحالة التي آل لها الشارع المصري كنتيجة للقمع والقهر بلا حدود ولحروب نزع الهوية وتغيير المعتقدات بتوظيف آلة إعلامية شيطانية، حيث بدأ المجتمع في إنتاج قواعد جديدة للصواب والخطأ society-rules-generation، بدأت بالبعد عن الحديث في الحقوق والسياسة، والدعاء علي الظالمين في المساجد، وتعليل ذلك بلقمة العيش، وتطورت الأمور حتي بات الناس يخشون الصلاة في المساجد، فبات التطاول علي الدين سنة، والعري والخلاعة والشذوذ من المعايير الجديدة للأمة، فهذا يمنع الآذان في المكبرات وهذا يحلل الخمر وآخر يحرف الآيات، وتلك تريد منع النقاب والمنقبات ولو أنك نظرت إليها وما فعلته بخلقتها لاستعذت بالله من الشيطان الرجيم في المحيا والممات، فضاع الصواب مع الخطأ وتغيرت القواعد وتبدلت الموازين فلا عرف عدت تعرف لها ولا دين.


وتتطور الأزمة الأخلاقية دوليا، فتري نفس المجتمع الدولي الذي رفض الانقلاب العسكري للفريق السيسي في ٢٠١٣ في بدايته واعتبره جريمة طبقا للمعايير القانونية الدولية التي تجرم تغيير الحكم والرئيس المنتخب بالقوة، ولكن مع استجابة السيسي لكل المطالب الاقتصادية الدولية وتوقيع الصفقات السلاح من فرنسا وأمريكا بأرقام فلكية، وتوقيع عقود مشاركة في الطاقة والتسليح مع ألمانيا وروسيا بشروط غير مرئيه، تبدل الحال وتغيرت الأحوال، فبات قائد الانقلاب مرحبا به في المحافل الدولية، بل وبات شريكا في حرب علي 
الإرهاب لم نعد نعرف من هو القاتل فيها من المقتول.




يناقش سيفنسون مع وود ذلك المنطق في أبحاثهم حيث تتعامل المجتمعات الدولية بصورة منفصلة بين القواعد المرتبطة بالأخلاق والحريات والديمقراطية في بلادها الأم وبين تطبيق تلك القواعد في البلاد الأخرى، separation between the perception and application of ethical standards in the homeland country and the destination ones حيث تلعب المصالح الدور الرئيسي، هذه المعايير المزدوجة أعتبرها جرائم في حق البشر والإنسانية تحمل تأثيرات خطيرة ومدمرة .


ومن أكثر التأثيرات المدمرة لهذه المعايير تلك المتعلقة بآلاف المصريين وعائلاتهم الذين فروا من جحيم الانقلاب والطغيان والتصفية وأحكام الإعدام والتعذيب في المعتقلات، حيث تؤكد التقارير الدولية أنه منذ تولي السيسي مقاليد الحكم في ٢٠١٣ صدر أكثر من ٢١٥٩ حكم بالإعدام نفذ منها ٨٣ علي الأقل، هؤلاء المصريين انتهي بهم الحال كلاجئين سياسيين غالبا غير رسميين في تركيا وقطر وبعض البلاد الأخرى، وكنتيجة مباشرة لفرارهم بحياتهم ولوقوفهم مع الحق ومناصرتهم لحق بلادهم في الحرية والديمقراطية بات أغلبهم لا يجد قوت يومه ولا يستطيع كفالة تعليم أولاده ولا تغطية احتياجاتهم الأولية، تكون مجتمع جديد يحوي الكثير من الأزمات الأخلاقية والاجتماعية، يستغل البعض فيه حاجة الآخرين ويتلاعب البعض الآخر بأفكارهم وهويتهم في مقابل لقمة العيش ومتطلبات الحياة ،مجتمع مصبوغ بالفتن والتخوين والمؤامرات والضغوط النفسية والعصبية، هؤلاء الناس الذين يمثلون القلب الحقيقي لمجتمع مصري ديمقراطي حر، باتو اليوم من هول ما يعيشوه يواجهون سؤالا خطيرا، هل ما فعلوه كان صوابا وهل الصواب دائما صوابا؟ 


إن حقيقة الأمر أن المجتمع الدولي المتعارف عليه بالمتحضر يفتقد المعايير الرئيسية للمعادلة الأخلاقية الحقيقية، ويحتاج إلى قواعد جديدة لانتخاب رؤسائه وممثليه، حيث الالتزام بالقواعد الأخلاقية ومعايير الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان لا يختلف داخل حدود الوطن عن خارجه ولا يرتبط بالمصالح والصفقات، كما أننا في حاجة ماسة لتطوير قدراتنا الفكرية والعقلية لكي نواجه تلك الأزمة الأخلاقية الخطيرة، لأن بقاء الحال كما هو عليه يأخذنا ويأخذ العالم إلى مستقبل مظلم لا تعرف فيه الصواب من الخطأ وتتبدل فيه المعايير فلا تري الملائكة من الشياطين، يضيع الأمل ويموت الحلم، حينها لن يكون الصواب صوابا ولن نري من الحلم  إلا سرابا  .

Comments

Recent Articles

Messenger of Judgement Day _ رسول يوم القيامة _ الدكتور حسام الشاذلي

Economy and Elections in Turkey: The Invisible Hands by Hossam ElShazly

جيم أوفر - Game Over - بقلم الدكتور حسام الشاذلي المستشار السياسي والاقتصادي الدولي