البيئة السياسية المصرية ومفهوم التحول الديمقراطي / بقلم الدكتور حسام الشاذلي


 الدكتور حسام الشاذلي، المستشار السياسي والإقتصادي الدولي و السكرتير العام للمجلس المصري للتغيير ، 

 التعريف والمفهوم : 

لا شك أن التاريخ والواقع قد أثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن البيئة السياسية المصرية هي بيئة فريدة عجيبة ، فوضوية وبرية، مزيفة في غالبها وغير حقيقية ، تحمل من العجب والقصص مالا يخطر علي قلب بشر وما قد ينطق عنه الحجر ، 
وبادئ ذي بدأ إذ بدأ ، وحتي لا يختلط المبتدأ بالخبر ولا نضل الطريق في السفر ، نعرف أو نتعرف علي ماهية البيئة السياسية وهويتها ، ومفهومها ومعيتها، تعرف البيئة الحياتية السياسية  للدول والمجتمعات ،  والشركات والمنظومات كونها أسلوب حياة يتمثل في عقد ذهني جمعي ،  غير مكتوب ولا بالحبر مخطوط ، يحدد المقبول والمرفوض ويوصف التقاليد والعهود، يطرح أساليب حل المشكلات وكيف تواجه الكوارث والعقبات ، يؤصل لتفنيد السياسات وكيفية إدارة الدواوين والحكومات ، يشرح كيف يختار الناس في الإنتخابات وكيف ترسم السياسات مع الدول ذات العلاقات ، 
هو عقد ذهني نفسي ، صيغ وكتب ووقع ووثق بالسنين والعقود بين جموع الناس وعامتهم وساداتهم وساستهم، تعلمه الجميع داخل المجتمع والمنظومه وتوارثته الأجيال منتصرة أو مظلومه ، فصار واقعا وحقيقه ، ومنهاجا للحياة وطريقه ، جزءا من حياة الناس وعلمهم ،  وعقدا لتعاملاتهم ووعيهم وجل إدراكهم ، بل بات كتابا لحسابهم قبل يوم حسابهم وميزانا لجنتهم ونارهم ، 
وهنا يكمن السر وأصل الحكاية ، لب التعريف وخلاصة الموضوع وسر الحياة والكلام الغير مسموع ، فعلي مر السنين والأعوام تشكل البيئة الحياتية وعي الناس وإدراكهم وتحدد هويتهم ومصيرهم ، فتصبح قانونا لحياتهم وواقعا يعيشونه قبل مماتهم ، توثقه محكمة الدنيا جيل بعد جيل ، ويحمله الأبناء عن الآباء لمسافة العمر وسرعة الضوء ميل بعد ميل ، 

الإنتقاء والإرتقاء الطبيعي : 

من المعلوم بالضرورة ومن الموروث علي الأرض المعمورة ، أن تشكيل البيئة الحياتية والسياسية للمجتمعات مرتبط بالوعي الإدراكي للبشر والعامه ، وبالتقدم العلمي والمحتوي التعليمي للأمة والفرد والمجموعة ، فإذا ما ترك الأمر لطبيعته ولقدرة الخالق في خلقته ، فإن الإنتقاء الطبيعي المتوازن يأخذ المجتمع لخيره وخيراته ويخلصه من أشراره وويلاته ، فتشهد الأمم تتحرر وتتقدم وتري الخير يعم ويتأصل ، حتي أذا بعد الناس أو قربوا من دينهم ، فهذه فطرة حياتهم وسنة الله في أيامهم وأقدارهم ، 
ومع التطور الطبيعي والإنتقاء الحياتي تنضج البيئة السياسية والحياتية للمجتمع ، فيقوم بإنتقاء الأقدر والأصلح من بين أفراده ومن عامة مواطنيه ومجموعاته ، من أجل رخاء الحياة وإصلاح المعيشة وتحقيق الأفضل للجميع ، ومع تطور الوعي للأفراد والمجتمع ، تتشكل بيئة سياسية متقدمة تحمي حق المجتمع في حياة أفضل وتؤصل لنظام يفرض الأقدر ويطيح بالأخطر ، 
وهنا يتحدث التاريخ فلا يسكت ويصرخ الماضي فلا يصمت ، يحكي عن دول وقارات وأمم وحضارات ، دمرتها الحروب وأكلتها الكوارث والمجاعات ، فباتت اليوم نموذجا للحرية والرخاء والتقدم والحياة بلا عناء ، اليابان والصين وأوروبا والولايات المتحدة ومن قبلها أمة الإسلام بمسافات ، كلها أمثلة ونماذج لقدرة الخالق في تطور البشرية والمجتمعات ، وإثباتا وثبوتا لنظريات الإرتقاء الطبيعي والإنتقاء للبيئات ، 

تزييف البيئة والتلاعب بالمقدرات : 

إن المأساة الحقيقية للبشر والمجتمعات والكارثة الغير طبيعية التي تتعدي حدود الزمان والمكان ، تكمن في تلك الدول والبيئات السياسية والحياتية التي لم تترك لكي تنشئ وترتقي وتتطور طبيعيا علي فطرة خالقها وبقانون وعيها وتعليمها وخبرتها ، ولكن تأبي أياد خبيثة مجرمة إلا أن تتدخل في القدر وتصنع الخطر ، فتزيف وعي الناس ومقاديرهم وتتلاعب بمفاهيم حياتهم وبيئاتهم ، فيتبدل العقد الإلهي النفسي المحكم بين أفراد المجتمع ومكوناته، ليحل محله عقد وهمي زائف يصنع بيئة حياتية سياسية وهمية تأخذ الناس لشر حياتهم ، وتعذب الناس في دنياهم قبل مماتهم ، 
تتبدل بنود العقد وفطرته ، لكي تخدم فئة علي حساب فئات ولكي تنهب كل الأموال والمناصب والخيرات ، فيتشكل واقع المجتمع علي أساس خرب بائد وتري الحقائق مغيبة والحقوق مضيعه، وواقع البيئة السياسية المصرية وفشل التحول الديمقراطي هو نموذج حي لتلك المأساة الإنسانية البشرية ، فمع إفساد بنود التعاقد الذهني والنفسي للمجتمع تتبدل البنود وتغيب العقود ، فيصبح الجنود باشوات ، وضباط الشرطة بهوات ، وقضاة الظلم أسيادا للمجتمع وأدوات للسياسة والساسات  ، تري اللصوص رجال أعمال والمرتشين أصحاب أفضال ، يبيت الدجال عالما ورجل الدين متخلفا والحرية خلع والتعليم وهم والديمقراطية كذبة والحرية خدعة ،  تسطر أقدار الناس بأيدي حفنة من الجهلة وتحكم البلاد بأمهر الفشلة ،
 لا تري دورا للعالم ولا الطبيب ولا المهندس ولا المثقف ،  ولكن تري هؤلاء من تذيلوا قوائم العلم والتعليم يتوارثون الحكم والمناصب في دولة الزيف والخرائب  ، تتشكل بيئة سياسية قميئة فاشلة لا تصنع حرية ولا تنتج رخاء ، فلا عجب ولا عجاب إن فشلت المنظومات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية ، ولا غرابة ولا عجابة في أن تتصدر البلاد قوائم الجهل والفقر والمرض،  فتلك البيئة المزيفة لا تبني أسرة ولا مجتمع ولا مدرسة للعلم ولا فناء ،
تحيط تلك البيئة السياسية بالجميع ، لا فرق بين معارض ومؤيد ، تري تعريف السياسي المرموق وقد بات إبن الباشوات وصاحب السيجارات والسيارات والقنوات ، صار النموذج الوفدي السراجي مثلا ومثالا لمن له الحكم أو الحق في أن يترشح في الإنتخابات ، هذا من منظور هؤلاء من يرون نفسهم قادة للمعارضة والحريات ، أما من يحكمون فقد باتوا يرون البدل والنياشين وصفائح المعدن ورتب الدواويين رمزا لمن يجب أن يحكم ويحدد مستقبل الوطن والمواطنين ، كلاهما جاهل يفتقر لعلم الحداثة وإدارة المنظومات في عصر الحريات والديمقراطيات، والجميع ينسي أو يتناسب أن كلا النموذجين فشل في تقديم أي نجاحات لوطن قد عاني فيه المواطن من كل الجهات وعلي مر العقود والسنوات، 
باتت التجمعات السياسية فاسدة بلا هدف ولا إنجازات ، لا تقارن تشكيلها ومضمونها بأي بيئة إحترافية متطورة ، يري هؤلاء معارضهم ومؤيدهم أن الحلم جرم إذا لم يخرج عنهم ، فلم يتعلم هؤلاء أن أساس التغيير هو الحلم والفكرة ، ففي مفهوم بيئتهم السياسية تري تحقير المختلف غاية ووأد الإبداع آيه ، فالمهم والأهم أن تسيطر حتي لو لم تكن تعي ماتقول أو تسطر ، 
صار تعريف الشخصية الهامة تلك التي لا يمكنك الوصول إليها بسهولة ، ولا ترد علي رسائلك بكلمات ولكن بأصابع وورود وقبلات ، فالمغيب هام ومشغول ولا يجد وقتا للكتابة والمقول، وإن كان ينام نصف حياته ولا يختلف وجوده عن مماته ،  لم يتعلم هؤلاء في عصر التواصل والإبداع أن التواصل فن والكلمة سر وأن قيمة الشخص وقامته تتحدد بكتابته ورسالته ، وأن العالم الحديث يقيم شخصيتك بإهتمامك بمشاعر الناس وتقديرك لكل حرف ورسالة ، ولكنها بيئة متخلفة رجعية لا تعلم إلا النفاق وطعام المأدبات ولا تتقن إلا الرشاوي وحكايات الليل والمؤثرات ،  لا مكان لها في عالم التغيير والإبداع المتجانس، ولكنها تلك البيئات السياسية المزيفه التي لا تنتج إلا شخصيات وهمية وزائفه ، غير قادرة ولا مؤثره ، 
في تلك البيئة السياسية المصطنعة تري الناس مشلولين عجزة، غير قادرين علي تغيير واقعهم ولا تشكيل مستقبلهم ، يغيب الوعي والفهم  ويحل الجهل والهم ، تري الكذاب القاتل يكذب ثم يقتل ، فيقتل ثم يكذب ولكنه يحكم ويتحكم وتري من يفسر له البنود ويهيئ له الأسباب والعقود ، 

العقد الجديد وحلم التغيير والأمل

كانت ثورة يناير محاولة جادة لإنهاء ذلك العقد الزائف  وطي صحيفته وإنهاء مدته ، حملها شباب لم يتشكل وعيهم داخل تلك البيئة السياسية الفاسدة ولم يتمكن  منهم ذلك المرض العضال برمته ، ولكن بأبي أصحاب العقود والأختام الزائفة إلا أن يعيدوها وأن يجددوها فتسير البلاد علي بحور من الدماء والفقر والقهر إلي مصير غير معلوم وإلي قدر بالخطر محتوم، 
ولذلك فأصل الخطر وكل المصيبة يكمن في تغيير تلك البيئة السياسية الحياتية الفاسدة والتي غيبت وعي شعب بأكمله وسيطرت تاريخا زائفا لحاضره ومستقبله ، فبات التغيير مستحيلا وصار الخروج من مستنقع الزيف خطيرا ، حتي مع كل الظلم والفقر والقهر والفشل ، يبقي السؤال دائما ، أين الأمل ؟ 
يبقي الأمل في الشباب ، في تلك النبتة التي تتعلم وتطور من قدراتها في كل يوم وليلة ، هذه المجموعات التي تأبي في خضم كل هذه الصعوبات إلا أن ترتقي وتنجح وتلحق بركب العلم والفهم والحرية ، تراهم وتعلمهم في كل مجالات العمل والعلم المتقدمة علي أرض مصر وخارجها ، يتواصلون مع العالم عبر الشبكات العنكبوتية ويعيشون في بيئة حياتية مختلفة وينتمون لعقد ذهني مختلف ، يبقي الأمل في بناء جيل جديد من هؤلاء ، جيل يحمل وعيا وفكرا مختلفا ، جيل ينمو ويتطور بعيدا عن المؤثرات الرجعية للمعارضة والنظام ، جيل يري الحق في كل الناس ولا يقصر رؤيته علي حزب أو جماعة ، جيل يري العدل واجبا والتغير طريقا ، يحمل منارة الحداثة والعلم ومهارات الإبداع والتواصل ، جيل يربي علي مفهوم إدارة التغيير وعلم المشروعات وقبول الآخر و إحترام الحلم وإعطاء الفرصة للكل ، 
جيل يحمل مشعل الأخلاق والعلم والحرية والديمقراطية ، يتخلص من الأحقاد والأضغان الشخصية والإعتبارية ، جيل يعلم أن كل مبادرة خطوة علي طريق التغيير فيدعمها وكل حلم أمل علي طريق الحرية فيعيشه ، جيل يحمل الحب ويبغض الكره وسيطرة الأفراد، جيل يعيد العقد الجمعي للمجتمع لفطرته ويبني دولة المهارات والفن والقدرات ، جيل يخلق بيئة سياسية جديدة من أجل الخير للجميع ومن أجل وطن أفضل وحياة أثمر، من أجل مصر الغد ، مصر الحرية والديمقراطية ، مصر الحق والعدل، 








Comments

Recent Articles

Economy and Elections in Turkey: The Invisible Hands by Hossam ElShazly

Messenger of Judgement Day _ رسول يوم القيامة _ الدكتور حسام الشاذلي

جيم أوفر - Game Over - بقلم الدكتور حسام الشاذلي المستشار السياسي والاقتصادي الدولي